فصل: فصل فِي بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي والأمر أنه لا يظلمهم، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبرًا لقوله: {ذلك} وهي: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك العذاب بسبب المعاصي، وبسبب: {أَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأوضح لهم السبيل، وهداهم النجدين كما قال سبحانه: {وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118].
قوله: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} لما ذكر الله سبحانه ما أنزله بأهل بدر أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين.
والدأب: العادة، والكاف في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون {والذين مِن قَبْلِهِمْ}، والمعنى: أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك، فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر، وجملة قوله: {كَفَرُواْ بئايات الله} مفسرة لدأب آل فرعون، أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله، فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم، والمراد بذنوبهم: معاصيهم المترتبة على كفرهم، فيكون الباء في {بذنوبهم} للملابسة، أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجملة: {إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب} معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى العقاب الذي أنزله الله بهم، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجملة جارية مجرى التعليل لما حلّ بهم من عذاب الله.
والمعنى: أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمط إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومنّ عليهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم، كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه، والعمل به من شكرها وقبولها، وجملة {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} معطوفة على {بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً} داخلة معها في التعليل، أي ذلك بسبب أن الله لم يك مغيرًا، إلخ.
وبسبب أن الله سميع عليم يسمع ما يقولونه ويعلم ما يفعلونه.
وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف.
ثم كرّر ما تقدّم، فقال: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ} لقصد التأكيد مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بأنه كان بالإغراق، وقيل: إن الأوّل باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم، والثاني: باعتبار ما فعل بهم.
وقيل: المراد بالأوّل كفرهم بالله، والثاني تكذيبهم الأنبياء.
وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف، والكلام في {أهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} كالكلام المتقدّم في {فأخذهم الله بذنوبهم} {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْن} معطوف على أهلكناهم، عطف الخاص على العام، لفظاعته وكونه من أشدّ أنواع الإهلاك، ثم حكم على كلا الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم، ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم، بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله، وبالظلم لغيرهم، كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة} قال: الذين قتلهم الله ببدر من المشركين.
وأخرج ابن جرير، عن الحسن، قال: قال رجل يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك قال: «ذلك ضرب الملائكة» وهذا مرسل.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وأدبارهم} قال: وأستاههم، ولكن الله كريم يكنى.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنعمَها على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} قال: نعمة الله: محمد صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على قريش فكفروا فنقله الله إلى الأنصار. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ}
هَذَا بَيَانٌ لِبَعْضِ مَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ الْأَخِيرَةِ: {وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وَمَعْنَاهُ: وَلَوْ رَأَيْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ- أَوِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مِنْ سَمِعَهِ أَوْ يَتْلُوهُ- إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَتْلَى بَدْرٍ وَغَيْرِهِمْ (وَمَعْلُومٌ أَنْ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةَ تَرُدُّ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا) مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَالَةَ كَوْنِهِمْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أَيْ: ظُهُورَهُمْ وَأَقْفِيَتَهُمْ بِجُمْلَتِهَا- وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ وَفَاتَهُمْ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمْ عِنْدَمَا يَقُولُونَ لَهُمْ: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ- لَوْ رَأَيْتَ ذَلِكَ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، يَرُدُّ الْكَافِرَ عَنْ كُفْرِهِ، وَالظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ، إِذَا هُوَ عَلِمَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْحَرِيقِ عَذَابُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ. وَرُوِيَ أَنَّ ضَرْبَ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ كَانَ بِبَدْرٍ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَضْرِبُونَ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وُجُوهِهِمْ، وَالْمَلَائِكَةُ تَضْرِبُ أَدْبَارَهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْقِيقِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُثَبِّتَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَغُرَّنَّكَ الرِّوَايَاتُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مِثْلَ الشَّوْكِ. فَقَالَ: ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ كَالرِّيحِ أَيْ لَا يُقْبَضُ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ.
وَيُؤَيَّدُ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ بِأَنَّ هَذَا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ بَقِيَّةُ قَوْلِهِمْ لَهُمْ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أَيْ: ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي ذُقْتُمْ وَتَذُوقُونَ بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَدَّمْتُمُوهُ إِلَى الْآخِرَةِ مَنْ كُفْرٍ وَظُلْمٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَمَلِ الْأَيْدِي أَوِ الْأَرْجُلِ أَوِ الْحَوَاسِّ أَوْ تَدْبِيرِ الْعَقْلِ- كُلُّ ذَلِكَ يُنْسَبُ إِلَى عَمَلِ الْأَيْدِي تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا، وَأَصْلُهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ تُزَاوَلُ بِهَا. وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ: وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَذَابُ ظُلْمًا مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُقُوعِ سَبَبِهِ مِنْ كَسْبِ أَيْدِيكُمْ، وَلَكِنْ سَبَبُ ذَلِكَ مِنْكُمْ ثَابِتٌ قَطْعًا، كَمَا أَنَّ وُقُوعَ الظُّلْمِ مِنْهُ لِعَبِيدِهِ مُنْتَفٍ قَطْعًا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِكُمْ قَطْعًا، فَلُومُوهَا فَلَا لَوْمَ لَكُمْ إِلَّا عَلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي يَرْوِيهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَمُوا». إِلَخْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍ رضي الله عنه وَالْحَقُّ أَنَّ الظُّلْمَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَتَنَزُّهِهِ عَنْ سَائِرِ النَّقَائِصِ، وَمَا يُنَافِي كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، لَا لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ مِنْهُ عَقْلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى- كَمَا قَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ- وَهُوَ خَطَأٌ فِي تَعْرِيفِ الظُّلْمِ، وَخَطَأٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَنُكْتَةُ هَذَا التَّكْرَارِ اللَّفْظِيِّ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْإِلَهِيَّةَ تُقَامُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِحَالِ أُنَاسٍ أَوْ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، وَمَا سَبَقَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَرَدَ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، كَمَا آذَوُا النَّبِيِّينَ قَبْلَهُ، وَكَانُوا يَقْتُلُونَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ بُخْلِهِمْ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [3: 181] وَيَتَّضِحُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: دَأْبِ هَؤُلَاءِ وَشَأْنِهِمِ الثَّابِتِ لَهُمْ- وَالدَّأْبُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ- كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ، وَسَائِرِ الْمُلُوكِ الْعُتَاةِ، وَأَقْوَامِ الرُّسُلِ فِي التَّارِيخِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقوله تعالى: {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ} وَلَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي الْعُدَدِ وَالْعَدَدِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَكَمَا كَانَ دَأْبُهُمْ وَاحِدًا كَانَتْ سُنَّةُ اللهِ فِيهِمْ وَاحِدَةً، فَنَصْرُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ هُوَ مُقْتَضَى تِلْكَ السُّنَّةِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ عِقَابَهُ، وَلَكِنْ لِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ أَجَلًا. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ- مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [3: 11] وَالنُّكْتَةُ فِي هَذَا التَّكْرَارِ بَيَانُ أَنَّهُ سُنَّةُ اللهِ فَاطَّرَدَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكُفَّارِ الْمَغْرُورِينَ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِفَقْرِهِمْ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِمُ النَّسَبِيَّةِ، وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَهِيَ فِي الْكُفَّارِ الْمَغْرُورِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَبَأْسِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفَقْدِ ذَلِكَ وَهِيَ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ أَخْذِهِ تَعَالَى لِقُرَيْشٍ بِكُفْرِهَا لِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهَا، الَّتِي أَتَمَّهَا بِبَعْثِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ مِنْهُمْ، كَأَخْذِهِ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، مُؤَيِّدٌ بِأَمْرٍ آخَرَ يَتِمُّ بِهِ عَدْلُهُ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ أَنْ يُغَيِّرَ نِعْمَةً مَا أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا هُمْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا تِلْكَ النِّعْمَةَ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مُحِيطٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ كُفْرِهِمْ لِلنِّعْمَةِ فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ.

.فصل فِي بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ:

هَذَا بَيَانٌ لِسُنَّةٍ عَظِيمَةٍ مَنْ أَعْظَمِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، يُعْلَمُ مِنْهَا بُطْلَانُ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى عُقُولِ النَّاسِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَلَا يَزَالُ جَمَاهِيرُ النَّاسِ يُخْدَعُونَ بِهَا، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِنَوْطِ سَعَادَةِ الْأُمَمِ وَقُوَّتِهَا وَغَلَبِهَا وَسُلْطَانِهَا بِسَعَةِ الثَّرْوَةِ، وَكَثْرَةِ حَصَى الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ:
وَلَسْتُ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى ** وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ

وَكَانَ مِنْ غُرُورِهِمْ بِهَا أَنْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ أُوتِيهَا لَا تُسْلَبُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ كَمَا فَضَّلَهُ اللهُ عَلَى غَيْرِهِ بِابْتِدَائِهَا، كَذَلِكَ يُفَضِّلُهُ بِدَوَامِهَا {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34: 35] وَقَدْ بَيَّنَّا غُرُورَ الْبَشَرِ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. ثُمَّ ظَهَرَ أَقْوَامٌ آخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحَابِي بَعْضَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ عَلَى بَعْضٍ بِنَسَبِهَا، وَفَضَّلَ بَعْضَ أَجْدَادِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ بِنُبُوَّةٍ أَوْ مَا دُونَهَا، فَيُؤْتِيهِمُ الْمُلْكُ وَالسِّيَادَةَ وَالسَّعَادَةَ لِأَجْلِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى مِلَلِهِمْ وَلاسيما إِذَا كَانُوا مِنْ آبَائِهِمْ، كَمَا كَانَ شَأْنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي غُرُورِهِمْ وَتَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِنَسَبِهِمْ، وَكَمَا فَعَلَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ النَّصَارَى ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، بِالْغُرُورِ فِي الدِّينِ، وَدَعْوَةِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّينَ، وَبِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنْ كَانُوا لَهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْمُخَالِفِينَ. فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِكُلِّ قَوْمٍ خَطَأَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا سَبَقَ فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْهَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [13: 11] وَأَثْبَتَ لَهُمْ أَنَّ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ مَنُوطَةٌ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا بِأَخْلَاقٍ وَصِفَاتٍ وَعَقَائِدَ وَعَوَائِدَ وَأَعْمَالٍ تَقْتَضِيهَا، فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الشُّئُونُ لَاصِقَةً بِأَنْفُسِهِمْ مُتَمَكِّنَةً مِنْهَا كَانَتْ تِلْكَ النِّعَمُ ثَابِتَةً بِثَبَاتِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ الْكَرِيمُ لِيَنْتَزِعَهَا مِنْهُمُ انْتِزَاعًا بِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُمْ وَلَا ذَنْبٍ، فَإِذَا هُمْ غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، غَيَّرَ اللهُ عِنْدَئِذٍ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَلَبَ نِعْمَتَهُ مِنْهُمْ، فَصَارَ الْغَنِيُّ فَقِيرًا، وَالْعَزِيزُ ذَلِيلًا، وَالْقَوِيُّ ضَعِيفًا. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَفْرَادِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِيهِمْ، لِقِصَرِ أَعْمَارِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ دُونَ تَأْثِيرِ التَّغْيِيرِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى غَايَتِهِ.
إِنَّ لِلْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْخُرَافِيَّةِ آثَارًا فِي وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَقُوَّةِ سُلْطَانِهَا أَوْ ضَعْفِهِ، وَلَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِوُقُوعِ التَّنَازُعِ بَيْنَ أُمَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِيهَا. وَإِنَّ لِلْأَخْلَاقِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِكَثْرَةِ بَعْضِهَا مَا يُسَمَّى خُلُقًا لِلْأُمَّةِ أَوِ الشَّعْبِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حُكْمِهَا وَسُلْطَانِهَا وَفِي ثَرْوَتِهَا وَعِزَّتِهَا أَيْضًا، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي سِيرَةِ كُلِّ أُمَّةٍ وَدَوْلَةٍ ذَاتِ تَارِيخٍ مَعْرُوفٍ، وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِ (الدُّكْتُورِ غُوسْتَاف لُوبُون) الِاجْتِمَاعِيِّ الْكَبِيرِ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ يَجِدْ فِيهَا شَوَاهِدَ كَثِيرَةً عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ أَظْهَرُهَا مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ فَرَنْسَةَ.
وَإِنْكِلْتِرَةَ- وَبَيْنَ الشُّعُوبِ اللَّاتِينِيَّةِ وَالشُّعُوبِ الْأَنْجُلُوسَكْسُونِيَّةِ عَامَّةً- فِي الْأَخْلَاقِ، وَمَا لِذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ فِي حَيَاةِ الْفَرِيقَيْنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالِاسْتِعْمَارِيَّةِ وَالتِّجَارِيَّةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ فِي تَأْثِيرِ الْأَخْلَاقِ فِي تَرَقِّي الْأُمَمِ وَتَدَلِّيهَا وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِهِ (رُوحُ الِاشْتِرَاكِيَّةِ) وَمَوْضُوعُهُ (نَفْسِيَّةُ الشُّعُوبِ): وَأَذْكُرُ هُنَا مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ كَثِيرًا فِي كُتُبِي الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَمَ لَا تَنْحَطُّ وَتَزُولُ إِذَا تَنَاقَصَ ذَكَاءُ أَبْنَائِهَا، بَلْ إِذَا سَقَطَتْ أَخْلَاقُهَا. هَذِهِ سُنَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ جَرَتْ أَحْكَامُهَا عَلَى الْيُونَانَ وَالرُّومَانِ، وَأَخَذَتْ تَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا، لَا يَزَالُ أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْقَهُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَيُجَادِلُونَ فِي صِحَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَخَذَ يَنْتَشِرُ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ مُفَصَّلًا فِي كِتَابٍ وَضَعَهَ حَدِيثًا الْكَاتِبُ الْإِنْكِلِيزِيُّ (الْمِسْتَرْ بِنْيَامِينُ كِيد) وَلَا أَرَى لِتَأْيِيدِ قَضِيَّتِي أَفْضَلَ مِنِ اقْتِبَاسِ بَعْضِ عِبَارَاتٍ عَنْهُ بَيَّنَ فِيهَا- مُنْصِفًا غَيْرَ مُحَابٍ- الْفَرْقَ بَيْنَ الْخُلُقِ (الْأَنْجُلُوسَكْسُونِيِّ) وَالْخُلُقِ الْفَرَنْسَوِيِّ وَنَتَائِجَ هَذَا الْفَرْقَ. اهـ. (ص104 و105) مِنَ التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ شَوَاهِدَ مِنْهُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ مُرَادِهِ، وَبَيَانِ تَفَوُّقِ الْإِنْكِلِيزِ عَلَى الْفَرَنْسِيسِ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَإِنَّ فَسَادَ الْأَخْلَاقِ الَّذِي أَهْلَكَ الْأُمَمَ التَّارِيخِيَّةَ الشَّهِيرَةَ كَالْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَالرُّومَانِ وَالْعَرَبِ قَدْ دَبَّ إِلَى الْإِفْرِنْجِ، وَكَانَ بَدْءُ فَتْكِهِ بِاللَّاتِينِ وَلاسيما الْفَرَنْسِيسُ مِنْهُمْ، فَقَلَّ نَسْلُهُمْ، وَصَارُوا يَرْجِعُونَ الْقَهْقَرِيَّ أَمَامَ الْإِنْكِلِيزِ وَإِخْوَانِهِمِ الْأَمِيرِكَانِيِّينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، دَعِ الْأَلْمَانَ الَّذِينَ فَاقُوا الْفَرِيقَيْنِ.